فصل: تفسير الآية رقم (51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (51):

{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)}
{الَّذِينَ} في موضع خفض نعت للكافرين. وقد يكون رفعا ونصبا بإضمار. قيل: هو من قول أهل الجنة. فاليوم ننساهم أي نتركهم في النار. كما نسوا لقاء يومهم هذا أي تركوا العمل به وكذبوا به. و{ما} مصدرية، أي كنسيهم. {وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ} عطف عليه، وجحدهم.

.تفسير الآية رقم (52):

{وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ} يعني القرآن. {فَصَّلْناهُ} أي بيناه حتى يعرفه من تدبره وقيل: {فَصَّلْناهُ} أنزلناه متفرقا. {عَلى عِلْمٍ} منا به، لم يقع فيه سهو ولا غلط. {هُدىً وَرَحْمَةً} قال الزجاج: أي هاديا وذا رحمة، فجعله حالا من الهاء التي في {فَصَّلْناهُ}. قال ويجوز هدى ورحمة، بمعنى هو هدى ورحمة.
وقيل: يجوز هدى ورحمة بالخفض على المن كتاب.
وقال الكسائي والفراء: ويجوز هدى ورحمة بالخفض على النعت لكتاب. قال الفراء: مثل {وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ}. {لقوم يؤمنون} خص المؤمنون لأنهم المنتفعون به.

.تفسير الآية رقم (53):

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)}
قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} بالهمز، من آل. واهل المدينة يخففون الهمزة. والنظر: الانتظار، أي هل ينتظرون إلا ما وعدوا به في القرآن من العقاب والحساب.
وقيل: {يَنْظُرُونَ} من النظر إلى يوم القيامة. فالكناية في {تَأْوِيلَهُ} ترجع إلى الكتاب. وعاقبة الكتاب ما وعد الله فيه من البعث والحساب.
وقال مجاهد: {تَأْوِيلَهُ}
جزاؤه، أي جزاء تكذيبهم بالكتاب. قال قتادة: {تَأْوِيلَهُ} عاقبته. والمعنى متقارب. {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} أي تبدو عواقبه يوم القيامة. و{يَوْمَ} منصوب ب {يَقُولُ}، أي يقول الذين نسوه من قبل يوم يأتي تأويله. {قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ} استفهام فيه معنى التمني. {فَيَشْفَعُوا} نصب لأنه جواب الاستفهام. {لَنا أَوْ نُرَدُّ} قال الفراء: المعنى أو هل نرد. {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} قال الزجاج: نرد عطف على المعنى، أي هل يشفع لنا أحد أو نرد. وقرأ ابن إسحاق {أنرد فنعمل} بالنصب فيهما. والمعنى إلا أن نرد، كما قال:
فقلت له لا تبك عينك إنما ** نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

وقرأ الحسن {أو نرد فنعمل} برفعهما جميعا. {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أي فلم ينتفعوا بها، وكل من لم ينتفع بنفسه فقد خسرها.
وقيل: خسروا النعم وحظ أنفسهم منها. {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} أي بطل ما كانوا يقولون من أن مع الله إلها آخر.

.تفسير الآية رقم (54):

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)}
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} بين أنه المنفرد بقدرة الإيجاد، فهو الذي يجب أن يعبد واصل {سِتَّةِ} سدسة، فأرادوا إدغام الدال في السين فالتقيا عند مخرج التاء فغلبت عليهما. وإن شئت قلت: أبدل من إحدى السينين تاء وأدغم في الدال، لأنك تقول في تصغيرها: سديسة، وفي الجمع أسداس، والجمع والتصغير يردان الأسماء إلى أصولها. ويقولون: جاء فلان سادسا وسادتا وساتا، فمن قال:
سادتا أيدل من السين تاء. واليوم: من طلوع الشمس إلى غروبها. فإن لم يكن شمس فلا يوم، قال القشيري. وقال: ومعنى {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي من أيام الآخرة، كل يوم ألف سنة، لتفخيم خلق السماوات والأرض.
وقيل: من أيام الدنيا. قال مجاهد وغيره: أولها الأحد وآخرها الجمعة. وذكر هذه المدة ولو أراد خلقها في لحظة لفعل، إذ هو القادر على أن يقول لها كوني فتكون. ولكنه أراد أن يعلم العباد الرفق والتثبت في الأمور، ولتظهر قدرته للملائكة شيئا بعد شي. وهذا عند من يقول: خلق الملائكة قبل خلق السماوات والأرض. وحكمة أخرى- خلقها في ستة أيام لأن لكل شيء عنده أجلا. وبين بهذا ترك معاجلة العصاة بالعقاب، لأن لكل شيء عنده أجلا. وهذا كقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ. فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ}. بعد أن قال: {وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً} قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} هذه مسألة الاستواء، وللعلماء فيها كلام وإجراء. وقد بينا أقوال العلماء فيها في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى وذكرنا فيها هناك أربعة عشر قولا. والأكثر من المتقدمين والمتأخرين أنه إذا وجب تنزيه الباري سبحانه عن الجهة والتحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدمين وقادتهم من المتأخرين تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهة، فليس بجهة فوق عندهم، لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز، ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون للمتحيز، والتغير والحدوث. هذا قول المتكلمين. وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله. ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة. وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته. قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم- يعني في اللغة- والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة. وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها. وهذا القدر كاف، ومن أراد زيادة عليه فليقف عليه في موضعه من كتب العلماء. والاستواء في كلام العرب هو العلو والاستقرار. قال الجوهري: واستوى من اعوجاج، واستوى على ظهر دابته، أي استقر. واستوى إلى السماء أي قصد. واستوى أي استولى وظهر. قال:
قد استوى بشر على العراق ** من غير سيف ودم مهراق

واستوى الرجل أي انتهى شبابه. واستوى الشيء إذا اعتدل. وحكى أبو عمر بن عبد البر عن أبي عبيدة في قوله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} قال: علا.
وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة ** وقد حلق النجم اليماني فاستوى

أي علا وارتفع. قلت: فعلوا الله تعالى وارتفاعه عبارة عن علو مجده وصفاته وملكوته. أي ليس فوقه فيما يجب له من معاني الجلال أحد، ولا معه من يكون العلو مشتركا بينه وبينه، لكنه العلي بالإطلاق سبحانه. قوله تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ} لفظ مشترك يطلق على أكثر من واحد. قال الجوهري وغيره: العرش سرير الملك.
وفي التنزيل {نَكِّرُوا لَها عَرْشَها}، {ورفع أبويه على العرش} والعرش: سقف البيت. وعرش القدم: ما نتأ في ظهرها وفية الأصابع. وعرش السماك: أربعة كواكب صغار أسفل من العواء، يقال: إنها عجز الأسد. وعرش البئر: طيها بالخشب، بعد أن يطوى أسفلها بالحجارة قدر قامة، فذلك الخشب هو العرش، والجمع عروش. والعرش اسم لمكة. والعرش الملك والسلطان. يقال: ثل عرش فلان إذا ذهب ملكه وسلطانه وعزه. قال زهير:
تداركتما عبسا وقد ثل عرشها ** وذبيان إذ ذلت بأقدامها النعل

وقد يئول العرش في الآية بمعنى الملك، أي ما استوى الملك إلا له جل وعز. وهو قول حسن وفية نظر، وقد بيناه في جملة الأقوال في كتابنا. والحمد لله. قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ} أي يجعله كالغشاء، أي يذهب نور النهار ليتم قوام الحياة في الدنيا بمجيء الليل. فالليل للسكون، والنهار للمعاش. وقرى {يغشى} بالتشديد، ومثله في الرعد. وهي قراءة أبي بكر عن عاصم وحمزة والكسائي. وخفف الباقون. وهما لغتان أغشى وغشى. وقد أجمعوا على {فَغَشَّاها ما غَشَّى} مشددا. وأجمعوا على {فَأَغْشَيْناهُمْ} فالقراءتان متساويتان.
وفي التشديد معنى التكرير والتكثير. والتغشية والإغشاء: إلباس الشيء الشيء. ولم يذكر في هذه الآية دخول النهار على الليل، فاكتفى بأحدهما عن الآخر، مثل {سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}. {بِيَدِكَ الْخَيْرُ}. وقرأ حميد بن قيس {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ} ومعناه أن النهار يغشى الليل. {يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} أي يطلبه دائما من غير فتور. و{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ} في موضع نصب على الحال. والتقدير: استوى على العرش مغشيا الليل النهار. وكذا {يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} حال من الليل، أي يغشي الليل النهار طالبا له. ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة ليست بحال. {حَثِيثاً} بدل من طالب المقدر أو نعت له، أو نعت لمصدر محذوف، أي يطلبه طلبا سريعا. والحث: الإعجال والسرعة. وولى حثيثا أي مسرعا. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ} قال الأخفش: هي معطوفة على السماوات، أي وخلق الشمس. وروي عن عبد الله بن عامر بالرفع فيها كلها على الابتداء والخبر. قوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} فيه مسألتان الأولى: صدق الله في خبره، فله الخلق وله الأمر، خلقهم وأمرهم بما أحب. وهذا الأمر يقتضي النهي. قال ابن عيينة: فرق بين الخلق والأمر، فمن جمع بينهما فقد كفر.
فالخلق المخلوق، والأمر كلامه الذي هو غير مخلوق وهو قوله: {كُنْ}. {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وفي تفرقته بين الخلق والأمر دليل بين على فساد قول من قال بخلق القرآن، إذ لو كان كلامه الذي هو أمر مخلوقا لكان قد قال: ألا له الخلق والخلق. وذلك عي من الكلام ومستهجن ومستغث. والله يتعالى عن التكلم بما لا فائدة فيه. ويدل عليه قوله سبحانه. {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ}. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ}. فأخبر سبحانه أن المخلوقات قائمة بأمره، فلو كان الأمر مخلوقا لافتقر إلى أمر آخر يقوم به، وذلك الأمر إلى أمر آخر إلى ما لا نهاية له. وذلك محال. فثبت أن أمره الذي هو كلامه قديم أزلي غير مخلوق، ليصح قيام المخلوقات به. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ}. وأخبر تعالى أنه خلقهما بالحق، يعني القول وهو قوله للمكونات: {كُنْ}. فلو كان الحق مخلوقا لما صح أن يخلق به المخلوقات، لأن الخلق لا يخلق بالمخلوق. يدل عليه {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ}. {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ}. {وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي}. وهذا كله إشارة إلى السبق في القول في القدم، وذلك يوجب الأزل في الوجود. وهذه النكتة كافية في الرد عليهم. ولهم آيات احتجوا بها على مذهبهم، مثل قوله تعالى: {ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} الآية. ومثل قوله تعالى: {وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً}. و{مَفْعُولًا} وما كان مثله. قال القاضي أبو بكر: معنى {ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ} أي من وعظ من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووعد وتخويف {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}، لأن وعظ الرسل صلوات الله عليهم وسلامه وتحذيرهم ذكر. قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ}. ويقال: فلان في مجلس الذكر. ومعنى {وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} و{مَفْعُولًا} أراد سبحانه عقابه وانتقامه من الكافرين ونصره للمؤمنين وما حكم به وقدره من أفعاله. ومن ذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا} وقال عز وجل: {وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} يعني به شأنه وأفعال وطرائقه. قال الشاعر:
لها أمرها حتى إذا ما تبوأت ** بأخفافها مرعى تبوأ مضجعا

الثانية: وإذا تقرر هذا فأعلم أن الأمر ليس من الإرادة في شي. والمعتزلة تقول: الأمر نفس الإرادة. وليس بصحيح، بل يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد. ألا ترى أنه أمر إبراهيم بذبح ولده ولم يرده منه، وأمر نبيه أن يصلي مع أمته خمسين صلاة، ولم يرد منه إلا خمس صلوات. وقد أراد شهادة حمزة حيث يقول: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ}. وقد نهى الكفار عن قتله ولم يأمرهم به. وهذا صحيح نفيس فبابه، فتأمله. قوله تعالى: {تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} {تَبارَكَ} تفاعل، من البركة وهي الكثرة والاتساع. يقال بورك الشيء وبورك فيه، قال ابن عرفة.
وقال الأزهري: {تَبارَكَ} تعالى وتعاظم وارتفع.
وقيل: إن باسمه يتبرك ويتيمن. وقد مضى في الفاتحة معنى {رَبُّ الْعالَمِينَ}

.تفسير الآية رقم (55):

{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ} هذا أمر بالدعاء وتعبد به. ثم قرن جل وعز بالأمر صفات تحسن معه، وهي الخشوع والاستكانة والتضرع. ومعنى {خُفْيَةً} أي سرا في النفس ليبعد عن الرياء، وبذلك أثنى على نبيه زكريا عليه السلام إذ قال مخبرا عنه: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا}. ونحوه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي». والشريعة مقررة أن السر فيما لم يعترض من أعمال البر أعظم أجرا من الجهر.
وقد تقدم هذا المعنى في {البقرة}. قال الحسن بن أبي الحسن: لقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون على أن يكون سرا فيكون جهرا أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء فلا يسمع لهم صوت، إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم. وذلك أن الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}. وذكر عبد اصالحا رضي فعله فقال: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا}. وقد استدل أصحاب أبي حنيفة بهذا على أن إخفاء آمين أولى من الجهر بها، لأنه دعاء. وقد مضى القول فيه في الفاتحة.
وروى مسلم عن أبي موسى قال: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر- وفي رواية في غزاة- فجعل الناس يجهرون بالتكبير- وفي رواية فجعل رجل كلما علا ثنية قال: لا إله إلا الله- فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لستم تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم». الحديث.
الثانية: واختلف العلماء في رفع اليدين في الدعاء، فكرهه طائفة منهم جبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير. وراي شريح رجلا رافعا يديه فقال: من تتناول بهما، لا أم لك! وقال مسروق لقوم رفعوا أيديهم: قطعها الله. واختاروا إذا دعا الله في حاجة أن يشير بإصبعه السبابة. ويقولون: ذلك الإخلاص. وكان قتادة يشير بإصبعه ولا يرفع يديه. وكره رفع الأيدي عطاء وطاوس ومجاهد وغيرهم.
وروى جواز الرفع عن جماعة من الصحابة والتابعين، وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكره البخاري. قال أبو موسى الأشعري: دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم رفع يديه ورأيت بياض إبطيه. ومثله عن أنس.
وقال ابن عمر: رفع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد».
وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القبلة مادا يديه، فجعل يهتف بربه، وذكر الحديث.
وروى الترمذي عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رفع يديه لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه. قال: هذا حديث صحيح غريب.
وروى ابن ماجه عن سلمان عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده أن يرفع يديه إليه فيردهما صفرا- أو قال: خائبتين». احتج الأولون بما رواه مسلم عن عمارة بن رويبة وراي بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه فقال: قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة. وبما روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن أنس ابن مالك حدثه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا عند الاستسقاء فإنه كان يرفعهما حتى يرى بياض إبطيه. والأول أصح طرقا وأثبت من حديث سعيد بن أبي عروبة، فإن سعيدا كان قد تغير عقله في آخر عمره. وقد خالفه شعبة في روايته عن قتادة عن أنس بن مالك فقال فيه: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه. وقد قيل: إنه إذا نزلت بالمسلمين نازلة أن الرفع عند ذلك جميل حسن كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الاستسقاء ويوم بدر. قلت: والدعاء حسن كيفما تيسر، وهو المطلوب من الإنسان لإظهار موضع الفقر والحاجة إلى الله عز وجل، والتذلل له والخضوع. فإن شاء استقبل القبلة ورفع يديه فحسن، وإن شاء فلا، فقد فعل ذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسبما ورد في الأحاديث. وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}. ولم يرد صفة من رفع يدين وغيرها. وقال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً} فمدحهم ولم يشترط حالة غير ما ذكر. وقد دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبته يوم الجمعة وهو غير مستقبل القبلة.
الثالثة: قوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} يريد في الدعاء وإن كان اللفظ عاما إلى هذا هي الإشارة. والمعتدي هو المجاوز للحد ومرتكب الحظر. وقد يتفاضل بحسب ما اعتدى فيه. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء». أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة. حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا سعيد الجريري عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال: أي بني، سل الله الجنة وعذبه من النار، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء». والاعتداء في الدعاء على وجوه: منها الجهر الكثير والصياح، كما تقدم. ومنها أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبي، أو يدعو في محال، ونحو هذا من الشطط. ومنها أن يدعو طالبا معصية وغير ذلك. ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة، فيتخير ألفاظا مفقرة وكلمات مسجعة قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معول عليها، فيجعلها شعاره ويترك ما دعا به رسوله عليه السلام. وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء. كما تقدم في البقرة بيانه.